شادية الإبراهيمي
مركز قلم ولوح، الرباط المغرب
تطور تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في السنوات الأخيرة من مجرد تعليم الأحرف وربط الجمل ووضعنا أمام إبداعات تجاوزت حدود الزمان والمكان، أبدعتها أنامل طلاب أجانب، لا لشيء غير التعبير عن محبتهم وافتخارهم بلغة الضاد، فمنها من تغنت باللغة العربية الفصحى ومنها من اتخذتها وسيلة للتعبير عن مكنونات النفس ومشاعرها. فهنا شعر في حب العربية وفي فلسفة النفس والوجود، وهناك مقالة في العربية ومكانتها في بلدان مختلفة، وهنالك تدوينات عن تجارب شخصية مع العربية، أو في نوادي ثقافية، كلهم طلاب عشقوا العربية واختاروا التعبير بالعربية في يومها العالمي كما في باقي أيام السنة.
لماذا اللغة العربية؟
تتعدد الأهداف التي تدفع آلاف الطلبة الأجانب لتعلم اللغة العربية، يطغى على معظمها الشق الأكاديمي ودراسات تاريخ الشرق الأوسط، إلى جانب البعد الاقتصادي والأمني والديني، كما يقبل من لا هدف له سوى التلذذ بهذه اللغة الجميلة التي أسرته وجعلته يقطع المسافات الطوال بحثا عنها من أفواه أصحابها.
لطالما كانت اللغة العربية كالترسانة الثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها، وقد غدت الآن لغة تحمل رسالة إنسانية بمفاهيمها وأفكارها، واستطاعت أن تكون لغة حضارة وجسر تواصل بين عوالم مختلفة، كما ضاعفت محبيها من غير العرب في وقت كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها.
هناك محبون للعربية من جنسيات وأعراق وعوالم أخرى يقبلون أيما إقبال على تعلم اللغة العربية واستكشاف جمالها. حملوا المشعل ويعملون جاهدا على إحياء وتذوق خبايا وأسرار هذه اللغة ويسيرون بها نحو الرفعة والعلو.
أجانب يختارون التعبير والإبداع بلغة الضاد
لقد استطاع بعض الأجانب أن ينافسوا أهل اللغة من خلال التواصل باللغة العربية الفصحى والاسترسال في الحديث، ومناقشة مواضيع ذات امتدادات مختلفة، فهم يفضلون التحدث بها في الأماكن العامة والشعور بالتميز والفخر والرقي لتمكنهم منها، فاللغة العربية يمكنها أن تكون لغة تواصل يومي، كما يمكنها أن تكون لغة نقاش علمي.
كما استطاعوا توظيف هذه اللغة للتواصل مع المجتمع المغربي خلال العمل على مشاريع بحثية تتعلق باهتماماتهم، وتصب معظمها في أنشطة تطوعية لفائدة بعض فئات المجتمع (المرأة، الطفل، المهاجرين).
فديو لماذا اللغة العربية؟
تعلم اللغة العربية يتم في سياقها الثقافي الطبيعي
لا يمكن تعلم لغة بمعزل عن سياقاتها الثقافية ووسطها، وهي الفرصة الذهبية التي يستغلها الطلاب للتعرف على المجتمع من خلال الأنشطة الثقافية والتي تتيح لهم التواصل مع المجتمع المغربي والتعرف على ثقافته وتاريخه وأنشطته الاجتماعية وبالتالي تحقيق الانغماس الكلي في الثقافة العربية وتحقيق الاكتفاء من اللغة العربية.
إن الرهان الآن تجاوز تعليم الأحرف العربية وربط الجمل وقراءة النصوص، إلى تمكين المتعلم من تذوق اللغة والكشف عن أسرارها ومكامن الجمال فيها. وهي المرحلة التي وصل إليها عدد مهم من الطلاب كنتيجة حتمية لمجهوداتهم في التعلم، عشقهم لهذه اللغة، بالإضافة إلى الفترة التي قضوها في دراسة الأدب العربي، حيث تعرفوا على الأجناس الأدبية وخصائصها وكذا الأنواع الشعرية بشقيها القديم والحديث، وفن المسرح والمقالة وأدب الرسالة، كما تعرفوا على تقنيات الكتابة القصصية.
الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية
إن اليوم العالمي للغة العربية، كان فرصة مواتية للتعبير عن الفخر والاعتزاز بهذه اللغة المعجزة، ولتجديد العهد على المواصلة في الحفاظ عليها ونشرها، وتمكين عدد أكبر منها عبر بقاع الأرض، وقد تم تخصيص الأسبوع بأكمله لهذا الاحتفاء باللغة لكونها من اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. والتي يعتبر المغرب من أول الدعاة الى تفعيل هذا المشروع بعد اقتراح تقدم به إلى جانب المملكة العربية السعودية خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو.
فكانت أول مبادرة هي فتح نقاش جاد حول واقع اللغة العربية، من أجل تشخيص الحالة وعقد المقارنات، ولاسيما من حيث مسألة الحوسبة ومواكبتها للتطور التكنولوجي، وتحديات الثورة الرقمية. وتم ذلك من خلال سلسلة من الأنشطة تم افتتاحها بمحاضرة علمية:
تطرقت المحاضرة الأسبوعية ليوم الأربعاء 18 دجنبر 2019: إلى موضوع اللغة العربية وتحديات الثورة الرقمية، والتي قدمتها الأستاذة رشيدة الزاوي أستاذة التعليم العالي بكلية علوم التربية، وحضرها طلبة وطالبات وأساتذة المركز وقد تفاعلوا مع هذا الموضوع وناقشوا جميعا هذه التحديات وكذا المبادرات الموظفة في هذا الشأن وسبل تطوير الخدمات اللغوية العربية ومضامينها رقميا.
كما استعد الطلاب بالمركز رفقة الطاقم الثقافي إلى تخليد اليوم العالمي للغة العربية من خلال تنظيم أمسية ثقافية موازاة مع النشاط الأسبوعي مقهى اللغة العربية وذلك عبر رسم مجموعة من اللوحات الفنية التي تتأسس على الحرف العربي المحتفى به، وتحضير معرض حول تاريخ الأبجدية العربية.
وفي يوم الاحتفاء الخميس 19 دجنبر خصص المقهى اللغوي حصته للإبداع في العربية حرفا ونثرا ولحنا، وقد أثث هذا الاحتفال فن العود العربي الذي أطرب الآذان من خلال مصاحبته للقراءات الشعرية حينا وعزف مقطوعات موسيقية حينا آخر، وذلك موازاة مع ورشة خط عربي مفتوحة لعشاق الحرف.
تضمن الاحتفاء مجموعة من الفقرات توزعت بين القراءات الشعرية، التي ألقاها مجموعة من رواد المقهى اللغوي وضيوفه من جنسيات مختلفة، وكذلك قراءات قصصية استهلها الكاتب والقاص إلياس أعراب، والذي وقع في نفس الوقت مجموعته القصصية سراب الماضي.
إضافة إلى مداخلات حول تجارب تعليم اللغة العربية، وكان للطلبة الأجانب حضور استثنائي فقد عرض الطالب فلافيو تجربة بلده إيطاليا في تعليم اللغة العربية، كما قرأت زهرة يلدريم مقالها المطول حول تأثير اللغة العربية في الثقافة الإسلامية بتركيا.
كما تم عرض مختلف المقالات والقصائد والخواطر التي كتبها الطلاب خلال هذه السنة والتي تعبر عن تعلقهم بالعربية وإصرارهم على التعبير بها وتفضيلها عن غيرها من اللغات.
ونذكر على سبيل المثال مقالة لمياء من جامعة هارفارد، تناولت فيها الشخصية التاريخية ابن اسينا وكيف شرح وجود الله، وبالإضافة إلى الكتابة الفكرية التأملية، كتبت أيضا شعرا فلسفيا تتساءل من خلاله عن معنى الوجود إلى جانب زميلها هنري من بريطانيا الذي حاول فهم تقلبات المشاعر تبعا للفصول فكتب نصا يشخص فيه الشفقة.
أما غيغا الطالب من جامعة ولاية تبليسي فقد كتب نصا يحاكي فيه تجربته في الأنشطة الثقافية وتحديدا نادي التطوع الذي عمل من خلاله على تعليم اللغة الإنجليزية للمهاجرين بمنظمة شرق غرب. وفي سياق الأنشطة الثقافية وخلال رحلة ثقافية نظمها المركز إلى مراكش، زارت الطالبة روبي من المملكة المتحدة متحف “إيف سان لورون” وأعجبت بالزرابي الفريدة للرحل الأمازيغ في المغرب، فكتبت عن هذه التجربة وعبرت عن إعجابها بهذا الفن التقليدي المغربي.
لقد اكتسى هذا الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية طابعا إبداعيا، ركز على الجانب الإمتاعي في اللغة، الشيء الذي أغرى أسماع هؤلاء الطلاب أكثر واستمروا في تتبع كل حرف مع كل نوطه عود إلى آخر قصيدة.
إن هذا الاحتفاء هو رسالة اعتراف بفضل اللغة العربية ومكانتها في نفوس أهلها ومحبيها من جنسيات أخرى، وكذا توغلها في كل المجالات بشكل مرن وسلس، وقدرتها على جذب أعداد هائلة من الراغبين فيها، ولأن العربية أكثر من مجرد لغة فهي باقية وتفرض نفسها ونحن كمركز لغوي عربي مستمرون في التمسك بها وحمل رسالتها وكشف ستار الغموض عنها لكل نفس عطشى تود الغوص في بحار الضاد.
وإليكم اللقاء بعيون قناة الجزيرة ضمن التقرير التالي: “قلم ولوح” في الرباط.. أجانب يختبرون أسرار لغة الضاد
Leave a Reply